سيرة السلف بين لذة العلم ومشقة طلبه

 

رحم الله سلفنا الصالح فكم في سيرتهم من العبر وفِي دروبهم من النور،صدقوا الطلب فجهدوا وتحملوا من المشقة في طلب العلم ما لا يتصوره جيل التقنية في العصر المتسارع.

فحراسُ العلم الشرعي كانوا معجزاتٍ في الحفظ للقرآن ولسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقد كان الإمام البخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح، وكان الإمام مسلم انتخب كتابه الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث على حين أن الإمام أبا داود انتخب كتابه السنن من خمسمائة ألف حديث، وقال الإمام أبو زرعــة الـرازي لعبد الله بن أحمد بن حنبل: كان أبوك يحفظ ألفَ ألفِ حديثٍ عن رسـول الله صلى الله عليه و سلم  قال عبد الله: وما يدريك قال: ذَاكَرْتُه فيها ، وكذا حفظوا كتب الفقه ومعاجم اللغة ودواوين الشعر.

هذه المهمة لا تنال ممن لا يظن بنفسه الخير والنفع لأمته بعلو همته فهذا  عبد الله بن عباس كان هو وله صديق من الأنصار، عبد الله بن عباس شاب في وقت عمر بن الخطاب كان في أوائل العشرينات من العمر، كان له صاحب من الأنصار فكان عبد الله بن العباس يغشى مجالس من الصحابة ويحرص على أن يستفيد منهم، فعاتبه صاحبه من الأنصار وقال: يا عبد الله أتظن أن الناس يحتاجون إلى علمك أو يحتاجون إليك، وهؤلاء صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجودون؟ فابن العباس لم تثنه هذه الكلمة عن الهمة وملازمة الكبار لأن الناس فعلا احتاجوا إليه بعد أن قل الصحابة، فكان يلازم باب أحد الصحابة -باب أحد الأنصار- حتى تسفي عليه الريح التراب وهو عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويصبر حتى يخرج إليه أو يخرج الصحابي ويصحبه إلى المسجد، يصحبه إلى مكان فيسأله عن العلم..

وقد كان للسلف رحلات طويلة تقصر بالهمة ، وبصدق الطلب ؛ فهذا إسحاق بن منصور المروزي من تلاميذ الإمام أحمد، قد كتب مجموعة من المسائل الفقهية ثم رجع إلى بلده نيسابور، ثم إنه بلغه أن الإمام أحمد قد رجع عن تلك المسائل وصار يفتي بغيرها، فوضع إسحاق صحفه وكتبه التي فيها تلك المسائل في جراب، وحملها على ظهره، وخرج راحلاً على قدميه من نيسابور إلى بغداد حتى لقي الإمام أحمد وسأله عن تلك المسائل فأقر له أحمد بما أفتاه به أولاً.

هذه الهمم عبر عنها الشعبي بقوله  عندما سئل: من أين لك هذا العلم كله؟ فقال : بنفي الاغتمام، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمام، وبكور كبكور الغراب. .

و في ترجمة أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي ت (513) -رحمه الله- أنه قال: ((إني لأجد من حِرْصي على العلم، وأنا في عَشْرِ الثماني أشدّ مما كنت أجده وأنا ابنُ عشرين سنة)).

 

وقد أدرك السلف رحمهم الله متعة العلم ولذته في أواخر حياتهم حيث كان جليسهم وأنيسهم فهذا  أبا الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى  329يقول : ((من أنفق عصر الشباب في العلم , فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس , ويلتذ بتصنيف ما جمع , ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم , هذا مع وجود لذاته في الطلب” ”

وكل هذه السير  تجعلنا ندرك الفارق بين بحثهم الذي يجعل العلم يسكنهم وبحوث بَعضُنَا اليوم التي لا تعدو أن تكون جمعاً من الشبكة العنكبوتية بضغطة زر ينقل المعلومة من الألواح الالكترونية الى الألواح الورقية دون أن يمر على روح الباحث أو أن يشكل شخصيته أو يعمق فكره وتأمله.

وأخيراً:

فإنه ليس فيما كتبته دعوة للمعاناة في التعلم والبحث ؛بل استجلاء لحقيقة التعلم والبحث والتي لا تكون بغير الصبر والمجاهدة وبذل النفس والوقت والصدق مع الله قبل كل شيء أن يبصر ويهدي وينير السبيل.

فمثل علم السلف لا يحصل بالاتكال ولا بوسائل التواصل السريعة ،بل بالصدق وطلب تزكية النفس قبل طلب ترقيتها في مراتب الدنيا ،كما أنه لايحصل بتضخم الذات وظن الكمال بل بكمال الافتقار الى الله تعالى وهو ماسنتناوله في المقال القادم بمشيئة الله.

 

بقلم: أمل بنت عبدالرحمن الغامدي

المحاضرة بقسم الثقافة الإسلامية

كلية الشريعة

أضف تعليق